فصل: احْتِمَالُ الْفِعْلِ لِلْجَزْمِ وَالنَّصْبِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.فائدة فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يخشاها}:

قالوا في قوله: {إنما أنت منذر من يخشاها} إِنَّ التَّقْدِيرَ مُنْذِرُ إِنْذَارًا نَافِعًا مَنْ يَخْشَاهَا قال الشيخ عز الدين ولا حاجة إِلَى هَذَا لِأَنَّ فَعَلَ وَأَفْعَلَ إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مُطَاوَعَةٌ كَخَوْفٍ وَعِلْمٍ وَشِبْهِهِ لَا يَكُونُ حَقِيقَةً لِأَنَّ خَوْفٌ إِذَا لَمْ يَحْصُلِ الخوف وعلم إذا لم يحصل العلم كان مجازا ومنذر مَنْ يَخْشَاهَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَهُوَ الْخَشْيَةُ فيكون حقيقة لمن يخشاها فإذا لَيْسَ مُنْذِرًا مَنْ لَمْ يَخْشَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ أَثَرٌ فَعَلَى هَذَا {إِنَّمَا أَنْتَ منذر} فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لِتَرَتُّبِ أَثَرِهِ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَخْشَى دُونَ مَنْ لَمْ يَخْشَ.

.احْتِمَالُ الْفِعْلِ لِلْجَزْمِ وَالنَّصْبِ:

فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا من الظالمين} يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ الْفَاءِ مَجْزُومًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا وَإِذَا كَانَ مَجْزُومًا كَانَ دَاخِلًا فِي النَّهْيِ فَيَكُونُ قَدْ نَهَى عَنِ الظُّلْمِ كَمَا نَهَى عَنْ قُرْبَانِ الشَّجَرَةِ فكأنه قال {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَكْتُمُوا مَجْزُومًا فَهُوَ مُشْتَرِكٌ مَعَ الْأَوَّلِ فِي حَرْفِ النَّهْيِ وَالتَّقْدِيرُ لَا تَلْبِسُوا وَلَا تَكْتُمُوا أَيْ لَا تَفْعَلُوا هَذَا كَمَا فِي قَوْلِكَ لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبِ اللَّبَنَ بِالْجَزْمِ أَيْ لَا تَفْعَلْ وَاحِدًا مِنْ هَذَيْنِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا وَالتَّقْدِيرُ لَا تَجْمَعُوا بَيْنَ هَذَيْنِ وَيَكُونُ مِثْلَ لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبِ اللَّبَنَ وَالْمَعْنَى لَا تَجْمَعُوا بَيْنَ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ الْقَبِيحَيْنِ كَمَا تَقُولُ لِمَنْ لَقِيتَهُ أَمَا كَفَاكَ أَحَدُهُمَا حَتَّى جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ فِي هَذَا إِبَاحَةُ أَحَدِهِمَا وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
وَقوله: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فريضة}، أَيْ مَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ الْمَسُّ أو الفرض الْمُسْتَلْزِمُ لِعَدَمِ كُلٍّ مِنْهُمَا أَيْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا فَإِنْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا فَعَلَيْكُمُ الْجُنَاحُ وهو المهر أو نصف المفروض وتفرضوا مجزوم عطفا على {تمسوهن}.
وقيل: نصب وأو بِمَعْنَى إِلَّا أَنْ.
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ لَمْ بَعْدَ أَوْ لِفَسَادِ الْمَعْنَى إِذْ يُؤَوَّلُ إِلَى رَفْعِ الْجُنَاحِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَسِّ مَعَ الْفَرْضِ وَعَدَمِهِ وَعِنْدَ عَدَمِ الْفَرْضِ مَعَ الْمَسِّ وَعَدَمِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلَا يُقَدَّرُ فِيمَا انْتَفَى أَحَدُهُمَا لِلُزُومِ نَفْيِ الْجُنَاحِ عِنْدَ نَفْيِ أَحَدِهِمَا وَوُجُودِ الْآخَرِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى أَحَدِهِمَا عَلَى الْإِبْهَامِ وَانْسِحَابِ حُكْمِ لَمْ عَلَيْهِ.
وَنَظِيرُهُ {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كفورا}.
وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بها إلى الحكام}.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين} وَالْوَجْهُ الْجَزْمُ وَيَجُوزُ النَّصْبُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ به الله} الآية.
وقوله تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النساء كرها ولا تعضلوهن}.
وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}.
وَقَوْلُهُ: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}.
وَقَوْلُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ: {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فتنقلبوا خاسرين}.
وَقَوْلُهُ فِي الْأَعْرَافِ: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فتكونا من الظالمين}.
وقوله في الأنفال: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أماناتكم وأنتم تعلمون}.
وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا}.
وَقَوْلُهُ: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه}.
وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ: {فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يروا العذاب الأليم} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى {لِيُضِلُّوا عَنْ سبيلك} فَيَكُونُ مَنْصُوبًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِالْفَاءِ عَلَى جَوَابِ الدُّعَاءِ وَأَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا لِأَنَّهُ دُعَاءٌ.
وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ يُوسُفَ: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وتكونوا من بعده}.
وَقَوْلُهُ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كان عاقبة الذين من قبلهم}.
وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ هُودٍ: {ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لدن حكيم خبير ألا تعبدوا} أي بأن لا تعبدوا فَيَكُونُ مَنْصُوبًا وَيَجُوزُ جَزْمُهُ لِأَنَّهُ نَهْيٌ.
وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بما صددتم} يجوز عطف {وتذوقوا} على {تخذوا} أَوْ {فَتَزِلَّ} قَبْلَ دُخُولِ الْفَاءِ فَيَكُونُ مَجْزُومًا.
وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تعبدوا إلا إياه} أَيْ بِأَلَّا تَعْبُدُوا أَوْ عَلَى نَهْيٍ.
وَفِيهَا {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بالحق}.
وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم}.
وَقَوْلُهُ فِي الْحَجِّ: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسم الله} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَامُ كَيْ أَوْ لَامُ الْأَمْرِ وَفَائِدَةُ هَذَا تَظْهَرُ فِي جَوَازِ الْوَقْفِ.
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا} فِيمَنْ كَسَرَ اللَّامَاتِ.
وَقَوْلُهُ فِي النَّمْلِ {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مسلمين} أَيْ بِإِنْ أَوْ نَهْيٌ.
وَقَوْلُهُ فِي الْعَنْكَبُوتِ {ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا}.
وَفِي فَاطِرٍ {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا}.
وفي يس {ليأكلوا من ثمره} هَلْ هِيَ لَامُ كَيْ أَوْ لَامُ الْأَمْرِ.
وَفِي الْمُؤْمِنِ {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا}.
وَفِي فُصِّلَتْ {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا}.
وفي الأحقاف {ألا تعبدوا إلا الله}.
وَفِي الْقِتَالِ {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا}.
وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّصْبِ ظُهُورُهُ فِي مِثْلِهِ {فتكون لهم قلوب}.
وقوله: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم}.
وقوله: {ألا تطغوا في الميزان} أَيْ لِئَلَّا أَوْ مَجْزُومٌ وَقوله: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يكونوا لكم أعداء}.
وقوله: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فيعتذرون} فَإِنَّ {يَعْتَذِرُونَ} دَاخِلٌ مَعَ الْأَوَّلِ فِي النَّفْيِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ بِدَلِيلِ قوله: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} فَإِنْ كَانَ النُّطْقُ قَدْ نُفِيَ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَالِاعْتِذَارُ نُطْقٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَنْفِيًّا مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: {ولا يؤذن لهم} وَلَوْ حُمِلَ عَلَى إِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ أَيْ فَهُمْ يَعْتَذِرُونَ لَجَازَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي لَا يَنْطِقُونَ أَنَّهُمْ وَإِنْ نَطَقُوا فَمَنْطِقُهُمْ كَلَا نُطْقٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعِ الْمَوْقِعَ الَّذِي أَرَادُوهُ كَقَوْلِهِمْ تَكَلَّمْتَ وَلَمْ تَتَكَلَّمْ.
وَقوله: {فَلَوْ أَنَّ لنا كرة} وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ هَذَا قَوْلًا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قلبي} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَامَ كَيْ وَالْفِعْلُ مَنْصُوبٌ أَوْ لَامَ الْأَمْرِ وَالْفِعْلُ مَجْزُومٌ وَقوله: {أَتَذَرُ موسى وقومه ليفسدوا في الأرض} فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا وَاللَّامُ زَائِدَةٌ وَمَنْ نَصَبَ {وَيَذَرَكَ} عَطَفَهُ عَلَى {لِيُفْسِدُوا}.

.رَأَى:

إِنْ كَانَتْ بَصَرِيَّةً تَعَدَّتْ لِوَاحِدٍ أَوْ عِلْمِيَّةً تَعَدَّتْ لِاثْنَيْنِ وَحَيْثُ وَقَعَ بَعْدَ الْبَصْرِيَّةِ مَنْصُوبًا كَانَ الْأَوَّلُ مَفْعُولَهَا وَالثَّانِي حَالًا.
وَمِمَّا يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَرَى النَّاسَ سكارى وما هم بسكارى}، فَإِنْ كَانَتْ بَصَرِيَّةً كَانَ النَّاسُ مَفْعُولًا وَسُكَارَى حَالًا وَإِنْ كَانَتْ عِلْمِيَّةً فَهُمَا مَفْعُولَاهَا.
وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {وترى كل أمة جاثية}.
وقوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وجوههم مسودة}.
فهذه الجملة أعني قوله: {وجوههم مسودة} فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ إِمَّا عَلَى الْحَالِ إِنْ كَانَتْ بَصَرِيَّةً أَوْ مَفْعُولٌ ثَانٍ إِنْ كَانَتْ قَلْبِيَّةً.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ: {ألم يروا كم أهلكنا}، فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِغَيْرِ وَاوٍ كَمَا فِي الْأَنْعَامِ وَفِي بَعْضِهَا بِالْوَاوِ وَفِي بَعْضِهَا بِالْفَاءِ {أفلم يروا}.
وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تَأْتِي عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَتَّصِلَ بِمَا كَانَ الِاعْتِبَارُ فِيهِ بِالْمُشَاهَدَةِ فَيُذْكَرُ بِالْأَلِفِ وَالْوَاوِ وَلِتَدُلَّ الْأَلْفُ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ وَالْوَاوُ عَلَى عَطْفِ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ قَبْلِهَا وَكَذَلِكَ الْفَاءُ لَكِنَّهَا أَشَدُّ اتِّصَالًا مِمَّا قَبْلَهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَتَّصِلَ بِمَا الِاعْتِبَارُ فِيهِ بِالِاسْتِدْلَالِ فَاقْتَصَرَ عَلَى الْأَلِفِ دُونَ الْوَاوِ وَالْفَاءِ لِيَجْرِيَ مَجْرَى الِاسْتِئْنَافِ.
وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا الْأَصْلُ بِقَوْلِهِ فِي النحل {ألم يروا إلى الطير} لِاتِّصَالِهَا بِقوله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} وَسَبِيلُهَا الِاعْتِبَارُ بِالِاسْتِدْلَالِ فَبُنِيَ عَلَيْهِ {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ}.
وَأَمَّا أَرَأَيْتَ فَبِمَعْنَى أَخْبِرْنِي وَلَا يُذْكَرُ بَعْدَهَا إِلَّا الشَّرْطُ وَبَعْدَهُ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أخذ الله سمعكم} الْآيَةَ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا}.
وقوله تعالى: {أرأيت الذي يكذب بالدين}.
وَأَمَّا رَأَيْتَ الْوَاقِعَةُ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فَهِيَ كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ خَرُوفٍ إِلَّا أَنَّهُمْ يَلْجَئُونَ فِيهَا وَجَوَابُهَا أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا كَيْفَ يَكُونُ كَذَا بِمَعْنَى عَدَمِ الشَّرْطِ ثُمَّ الِاسْتِفْهَامُ بَعْدَهُ عَلَى نَمَطِ الْآيَاتِ الشَّرِيفَةِ وَهِيَ مُعَلَّقَةٌ عَنِ الْعَمَلِ بِمَا بَعْدَهَا مِنَ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ وَكَذَلِكَ الرُّؤْيَةُ كَيْفَ تَصَرَّفَتْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}، فَدَخَلَهَا مَعْنَى التَّعَجُّبِ كَأَنَّهُ قِيلَ أَلَمْ تَعْجَبْ إلى كذا فتعدت بـ: (إلى) كَأَنَّهُ أَلَمْ تَنْظُرْ وَدَخَلَتْ (إِلَى) بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ وَعُلِّقَ الْفِعْلُ عَلَى جُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَلَيْسَتْ بِبَدَلٍ مِنَ الرَّبِّ تَعَالَى لِأَنَّ الْحَرْفَ لَا يُعَلَّقُ.
وَأَمَّا أَرَأَيْتُكَ فَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي مَوْضِعَيْنِ وَغَيْرِهَا وَلَيْسَ لَهَا فِي الْعَرَبِيَّةِ نَظِيرٌ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ عَلَامَتَيْ خِطَابٍ وَهُمَا التَّاءُ وَالْكَافُ وَالتَّاءُ اسْمٌ بِخِلَافِ الْكَافِ فَإِنَّهَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ حَرْفٌ يُفِيدُ الْخِطَابَ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى مَبْنَاهَا عَلَيْهِ مِنْ مَرْتَبَةٍ وَهُوَ ذِكْرُ الِاسْتِبْعَادِ بِالْهَلَاكِ وَلَيْسَ فِيمَا سِوَاهَا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَاكْتَفَى بِخِطَابٍ وَاحِدٍ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ: الْإِتْيَانُ بِأَدَاةِ الْخِطَابِ بَعْدَ الضَّمِيرِ الْمُفِيدِ لِذَلِكَ تَأْكِيدٌ بِاسْتِحْكَامِ غَفْلَتِهِ كَمَا تَحَرَّكَ النَّائِمُ بِالْيَدِ وَالْمُفْرِطُ الْغَفْلَةِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ وَلِهَذَا حُذِفَتِ الْكَافُ فِي آيَةِ يُونُسَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ قَبْلَهَا ذِكْرُ صَمَمٍ وَلَا بَكَمٍ يُوجِبُ تَأْكِيدَ الْخِطَابِ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَهَا قوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار} إِلَى مَا بَعْدَهُنَّ فَحَصَلَ تَحْرِيكُهُمْ وَتَنْبِيهُهُمْ بِمَا لَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ إِلَّا التَّذْكِيرُ بِعَذَابِهِمْ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَرَأَيْتَكَ هذا الذي كرمت علي} قال البصريون هذه الكاف زائدة زيدت لمعنى المخاطبة قال محمد بن يزيد وكذلك رويدك زيدا قال والدليل على ذلك أنك إذا قلت أرأيتك زيدا فإنما هي أرأيت زيدا لأن الْكَافُ لَوْ كَانَتِ اسْمًا اسْتَحَالَ أَنْ تُعَدَّى أرأيت إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ يُرِيدُ قَوْلَهُمْ أرأيت زيدا قائما لا يعدي رأيت إِلَّا إِلَى مَفْعُولٍ هُوَ زَيْدٌ وَمَفْعُولٍ آخَرَ هُوَ قَائِمٌ فَالْأَوَّلُ هُوَ الثَّانِي.
وَقَالَ غَيْرُهُ: مَنْ جَعَلَ الْأَدَاةَ الْمُؤَكَّدَ بِهَا الْخِطَابُ فِي أرأيتكم ضمير لَمْ يَلْزَمْهُ اعْتِرَاضٌ بِتَعَدِّي فِعْلِ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ إِلَى مُضْمَرِهِ الْمُتَّصِلِ لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي بَابِ الظَّنِّ وَفِي فِعْلَيْنِ مِنْ غَيْرِ بَابِ ظننت وهما فقدت وعدمت وَكَذَلِكَ تَعَدِّي فِعْلِ الظَّاهِرِ إِلَى مُضْمَرِهِ الْمُتَّصِلِ جَائِزٌ فِي الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ وَالْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ بَابِ الظَّنِّ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِـ: (رَأَيْتُ) رُؤْيَةَ الْقَلْبِ فَهِيَ مِنَ الْمُسْتَثْنَى وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ مُطْلَقًا تعدي فِعْلِ الْمُضْمَرِ الْمُتَّصِلِ إِلَى ظَاهِرِهِ فَلَا اخْتِلَافَ فِي مَنْعِ هَذَا مِنْ كُلِّ الْأَفْعَالِ.
وَأَمَّا مَنْ جَرَّدَ أَدَاةَ الْخِطَابِ الْمُؤَكَّدِ بِهَا لِلْحَرْفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ فَلَا كَلَامَ فِي ذَلِكَ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَوْضِعِ الْكَافِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى أَقْوَالٍ:
قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَا مَوْضِعَ لها.
وقال السكاكي: موضعها نصب.
وقال الفراء: رفع.
إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَلَهَا مَوْضِعَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي فَلَا تَقَعُ إِلَّا عَلَى اسم مفرد أو جملة شرط كقوله: {أرأيت إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم} الْآيَةَ وَلَا يَقَعُ الشَّرْطُ إِلَّا مَاضِيًا لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ لَيْسَ بِجَوَابٍ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ مُعَلَّقٌ بِـ: (أَرَأَيْتُكَ) وَجَوَابُ الشَّرْطِ إِمَّا مَحْذُوفٌ للعلم به وإما للاستفهام مع عامله وَإِذَا ثُنِّيَ هَذَا أَوْ جُمِعَ لَحِقَتْ بِالتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ الْكَافُ وَكَانَتِ التَّاءُ مُفْرَدَةً بِكُلِّ حَالٍ.
قَالَ السِّيرَافِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِفْرَادُهُمْ لِلتَّاءِ اسْتِغْنَاءً بِتَثْنِيَةِ الْكَافِ وَجَمْعِهَا لِأَنَّهَا لِلْخِطَابِ وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ أَرَأَيْتَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي وَغَيْرِهَا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى عَلِمْتُ.
وَالثَّانِي: تَكُونُ فِيهِ بِمَعْنَى انْتَبِهْ كَقَوْلِكَ أَرَأَيْتَ زَيْدًا فَإِنِّي أُحِبُّهُ أَيِ انْتَبِهْ لَهُ فَإِنِّي أُحِبُّهُ وَلَا يلزمه الاستفهام.
وَقَدْ يُحْذَفُ الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ جَوَابٌ لِلْعِلْمِ به فلا يذكر كقوله تعالى {قال يا قوم أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بالله} فَلَمْ يَأْتِ بِجَوَابٍ وَأَتَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالْجَوَابِ وَلَمْ يَأْتِ بِالشَّرْطِ قَالَ تَعَالَى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غشاوة فمن يهديه} فَـ: (مَنْ) الْأَوَّلُ بِمَنْزِلَةِ (الَّذِي).